تفاصيل صغيرة
حليب أسود
هناء حجازي
المغرمون بالكاتبة التركية الشهيرة إليف شفق سيعرفون أنني أتحدث عن كتابها الذي ترجمه لنا أحمد العلي وكتبت له مقدمة رائعة بدرية البشر.
هذا النوع من الكتب يستهويني، ولو اخترت نوعا من الكتب يمثلني سأقول هذا النوع، النوع السيري الذي تتحدث فيه امرأة، ما بالكم إذن إذا كان الكتاب يتحدث بلسان امرأة كاتبة، تجمع فيه كل الأمور التي تشغل بال أي كاتبة. الكتابة، الأنوثة، الزواج، الإنجاب، الأنا. والأهم، والذي يلامس الجميع، إلى أي حد يأخذ العالم الكاتبة المرأة بجدية مقارنة بالرجل.
كل صفحة في الكتاب تستحق أن أعود إليها وأذكر ما فيها من أفكار ومعلومات ومشاعر. الكتاب بالمناسبة 400 صفحة تقريبا.
لصعوبة ذلك سأكتفي بالكتابة عن لقطة واحدة، هي تعدد شخصيات الكاتبة. فهي كاتبة، وهي مثقفة، وهي أم وهي امرأة عاملة وهي متدينة.. كل هذه الشخصيات تتصارع معا وكل واحدة منهن تحاول الاستحواذ على الكاتبة والسيطرة على الباقين، حتى تصل في النهاية إلى أنها هؤلاء جميعا بالتساوي.
لو سألت أي كاتبة في العالم، وبالتأكيد في عالمنا الشرقي ستقول لك كم يلمسها هذا الجزء من الكتاب، كم هو حقيقي، ويومي، ومتجذر.
تذكرت المثقفات اللاتي يهملن الاعتناء بأنفسهن، يرتدين ملابس واسعة، غير مهتمات بالتأنق أو الظهور بمظهر جذاب، لأن الشخصية العملية طغت عليهن، ولكن السبب الرئيس في رأيي، الخشية من حكم الآخر، الحكم الذي يقول، أي امرأة تهتم بمظهرها فهي ليست جادة وكتابتها بالتالي ليست جادة.
وهناك الكاتبات اللاتي لا تذكرن أبناءهن بتاتا. والسبب أيضا الخوف من أن توضع في زاوية الأمومة. الأم ليست كاتبة، بالأخص الأم التي تتحدث عن أبنائها، الكاتبة عليها أن تنفي عن نفسها أي اهتمامات أخرى سوى الكتابة.
لا يحاسب المجتمع الرجل الكاتب حين يقفل على نفسه الباب ويختلي بأفكاره كي ينتج كتابة، لكن المرأة لا تستطيع أن تفعل ذلك، عليها أن تؤدي أدوارها الأخرى أولا قبل أن تفكر بالكتابة، عليها أن تتأكد أن أطفالها قد غطوا في نوم عميق، وأن زوجها سامحها على الانشغال عنه، وأن بيتها نظيف والمواد الغذائية تملأ الثلاجة ودواليب المطبخ. وبعد أن تفعل كل ذلك، لا يبدو أن المجتمع يغفر لها انشغالها عن الكتابة بكل تلك الأمور، لذلك يضعها في مرتبة أقل من الكاتب الرجل. ذات الرجل الذي يسمح لنفسه أن يسخر من المرأة المثقفة لأنها لا تهتم بأنوثتها، هو نفسه الذي لا يستطيع أن يضعها في نفس مرتبة الرجل الكاتب إذا اهتمت بأنوثتها.
هناك الكثير من التناقضات، على المرأة الكاتبة أن تعي هذه التناقضات، وتختار، إما الانصياع لها، أو أن تكون كل هذه الشخصيات معا، بدون أن تسمح لأحد أن يضعها في مرتبة أقل، مهما كان اختيارها.