كأنها ستكون مقالة عن النعناع، او العنعنة، او ما شاء القارئ، لكنها لن تكون حتماً وفيَّة للعنوان، وكيف ستكون وفية في زمن الخيانات العظمى.
هذه الخيانات التي يقع فيها القادة الكبار والصغار، ثم تنتشر كالنار فتصيب حتى الكلاب التي عرفت بوفائها الفطري، ولم يعد لرمزية جدار برلين من معنى أمام انهيار الجدران التي ما كان أحد يتوقع أن تنهار. الكل يهدم جداره أو جدرانه على الأصح حتى أنه لم يعد لشيء – أي شيء – من معنى.
سئل أحد الفلاسفة عما اذا مازال للسياسة من معنى، فأجاب ذلك الفيلسوف واسمه هنّاه آرونت «السياسة لا تعني غير الحرية» قالها ومضى، وربما مات أو انهد مثل أي جدار، وحار الناس في تفسير معنى الحرية. وكل نظام سياسي يدّعي أنه هو الحرية، وأن ما عداه ليس إلا استلاباً لهذا المصطلح النبيل، وكل فرد مرتزق من هذا النظام السياسي أو ذاك يدافع عن تفسير مولاه وقادته للحرية والسياسة والوطن والعدالة والعالم والحياة والموت، يدافع عن تفسيرهم للمعرفة وامتلاكهم المطلق لها دون سواهم.
وكل تفسير للحرية يجد نفسه في مواجهة تفسيرات أخرى مضادة أو مختلفة ولو شكلياً، ولذا فإن نوعاً من الصراع ينشأ على خلفية تعدد التفسيرات وكل تفسير يستند إلى مرجعية أو مرجعيات تاريخية ودينية وثقافية بعضها ما أنزل الله به من سلطان. يتخذ هذا الصراع أوجهاً وأشكالاً عديدة أوصلت الإنسانية إلى مستويات من الموت والدمار مالم يتصوره عقل بشري.
ولعل من أرقى التفسيرات التي أعطيت للحرية في القرن العشرين، ذلك التفسير الذي تبنته ثورة الطلاب الفرنسيين فيما عرف بثورة ثمانية وستين ، والتفسير هنا قائم على «منع الممنوع» مما يعني رفع كل أشكال القمع التي كرسها الانسان عبر التاريخ ضد ذاته، ولعل في هذا التفسير ما يغري الشباب في سن معينة – لكنه تفسير لم ينجح ولم يصمد طويلاً حتى مع أولئك الذين تبنوه ودافعوا عنه وربما مات بعضهم من أجله.
الحرية هي المانع والممنوع. ولا بد لأي مجتمع من حرّيته التي لا تلغيه ولا تلغي في ذات الوقت ثقافته ومعتقداته، ويظل أبشع أنواع الحرية هو ذلك الذي يلغي أي معنى للحرية لا يتناسب مع رؤيته، عندها تصبح الحرية معتقلاً لا تنمو فيه إلا نبتة واحدة لا تثمر إلا شتى الأمراض، ولعل ما يحدث في بعض البلدان المحررة بكل أنواع الأسلحة الأمريكية ما يغنينا عن سرد أي مثال، وفي بعض البلدان الأخرى الواقعة تحت حرية أسلحة غربية أو شرقية نماذج لهذه التفسيرات التي تقتل الحرية والإنسان، تقتل القول والقائل وتحيلنا باستمرار إلى فداحة هذا المسلسل الإنساني الطويل.